Sunday 22 June 2014

إعادة قولبة الاستبداد لا تأتي بالإصلاح


لا تقوم قائمة لانتفاضة شعبية ثائرة على الظلم والاستبداد وهي مستندة إلى أسس طائفية وتحالفات مشبوهة. رغم هذه الحقيقة البسيطة، ينجر البعض إلى التفاؤل بشأن تحالف الدولة الإسلامية في بغداد والشام “داعش” مع بقايا حزب “البعث الصدّامي” و”ثوار العشائر” في رفع الاضطهاد عن “سنة العراق”.
جميع ما بين الأقواس تعريفات طائفية عنصرية يُعتقد وهمًا أن تؤسس لدولة مدنية، بل وتتم مطالبة المشككين في نتائج هذه “الثورة” بالصمت و”عدم التأليب” على الثورة. دون وعي للفرق بين التشكيك والتخوف من نتائج هذا الحراك المسلح وبين التسليم بمشروعية الانتفاض على نظام المالكي الذي حول العراق إلى دولة هزيلة مفرغة من مؤسساتها  ومجردة من أي أهداف وطنية عليا.
التطرف والإقصاء وعدم وضوح الغاية هي أبرز العوامل التي حولت الربيع في دول الربيع العربي إلى خريف قاسٍ، وهي نفسها العوامل التي تسيّر الأمور في “ثورة العشائر” العراقية. غير أن الكثيرين اختاروا تجاهل هذه الدلالات الواضحة على اعتبارها توصيفات إنشائية عاطفية لا تصلح لغير تجيير صفحة مكتوبة في رواية ثورية.
طائفية المالكي وحكومته وحتمية سقوطه لا تلغي كون التحالفات التي اجتمعت اليوم في العراق هي تحالفات قوى متناقضة ومشبوهة لن يجلب اجتماعها للعراق غير المزيد من ويلات الحرب والانقسام، بالإضافة إلى أنه ينذر بخروج مشوّه لمارد البعث العراقي من قمقمه الذي سيق إليه. وفي نمطية مخزية، بدأ المالكي بالفعل عمليات “التطهير” لقيادات من الحزب المنحلّ الذي يعتقد ارتباطها المباشر مع أمين سر الحزب، عزة الدوري، بدلًا من السعي إلى حوار وطني يشمل جميع الفرقاء السياسيين بالأخص الذين يعتقد أن لهم دورًا فاعلًا في الأحداث الجارية.
إن إعادة قولبة الاستبداد لا يمكن أن تسمّى إصلاحًا ولا تعني بأي حال من الأحوال تغييرًا إيجابيًّا، وهي على الأرجح الخيار الأخير لشعب أنهكته الإحباطات المتوالية ودفعه اليأس من إيجاد حلول إصلاحية جادة إلى التعلق بقشة قد تكون قاصمة لهذه المنطقة البائسة برمتها والتي تعاني في ذات الوقت من نفس الإحباط والتخبط السياسي واليأس من الإصلاح الذي يكابده العراقيون.
الدليل الأوضح على أن إعادة قولبة الاستبداد لا يمكن أن تنتج إصلاحًا؛ أنّ ما نتج عن إعادة تدوير أمريكا لنظام حزبي فاشيّ في العراق هو نظام محاصصة مذهبي فرّغ العراق من مؤسساته وحوّل جيشه إلى ميليشيات هزيلة ذات ولاءات وانتماءات طائفية فشلت في أول اختبار حقيقي لها في حماية الدولة. هذا، باختصار، هو محصلة الغزو الأمريكي والذي تم على حساب خيرات العراق ومدخرات أبنائه.
ومما يعزّز الاعتقاد في كون الجاري في العراق هو إعادة قولبة للاستبداد ليس كون من يقف خلفه هو من الطائفة السنية وحدها كما يعتقد البعض، بل لأنّ هذا الحراك يسير على نفس الخطى التي يتبعها النظام الحالي بتقديم مصالح محدودة على مصالح وطنية عليا، ويعقد رهانات فاشلة على عناصر خارجية مشبوهة. فانتفاضة العراق اليوم وبهذه الرؤية تراهن على استقراره وتقدمه على يد عناصر إرهابية دموية ساهمت في تقويض الثورة السورية وإنهاكها و صرف أنظار وتعاطف العالم عنها.
الكل يخشى اليوم شيئًا في العراق، أوباما يخشى على إرث بوش هناك، فهو -بحسب الواشنطن بوست- مخيّر بين “الاستسلام لمجموعة من الأشرار أو التسليم لحكومة شريرة”. وإيران تخشى فقدان سيطرتها على الجار الذي تُمثّل سيطرتها عليه طعنة في خاصرة الخليج والذي ساهمَ في دفع ثمن خنجرها بنفسه. دول الخليج بدورها قلقة أيضًا من فقدان السيطرة على مجموعة متطرفة وغامضة وطموحة مثل داعش في ظل توتر سياسي داخلي وتزايد المطالبات الشعبية بالإصلاح دون وجود أي بودار استجابة أو نيّة حقيقية في التغيير على المدى القريب.
منال.
نشرت هذه التدوينة في موقع التقرير يتاريخ 21 يونيو 2014

Sunday 8 June 2014

المثقف وإشكالية الهُويّة السياسيّة



إنّ تبنّي الإنسان لمواقف سياسية معينة لا يعكس بالضرورة (هُويّة سياسيّة)؛ فالهُويّة تتشكل بانتماء واعٍ ثابت، في حين أن المواقف السياسية قد تمثل (ثقافة) لا تعبر بالضرورة عن أي انتماء سياسي، بالأخص لو خلى المجتمع من صور المشاركة السياسية والتمثيل الحزبي.
هذه الثقافة المعنية تعكس في الغالب علاقة المثقف مع الآخر المختلف، الآخر البعيد، الآخر الغريب. عبرت الروائية التركية الشهيرة إليف شافاق عن الفرق بين رؤية السياسي والمثقف لهذا الآخر بقولها: “السياسيون بحاجة إلى الآخر كوسيلة لتحقيق أهدافهم، أما بالنسبة للكتّاب فمهمتهم لا تكمن في الانقسام ولكن في بناء الجسور بينهم وبين الآخرين. إن التعاطف هو جوهر رواية القصص، وعلينا أن نرى العالم بعيدًا عن كونه خارطة سياسية، فمصائب البعض في باكستان تؤثر على سعادة الآخرين في كندا، و كل شيء في هذا العالم يعيش في حضن الأخر”.
هكذا يتبنّى، أو يفترض أن يتبنى، المثقف موقفه من أي حدث، كما يفترض من السلطة ومن المجتمع بالذات فهم حيثيات حكم المثقف على أغلب الأحداث حوله بعيدًا عن أي تنميط أو تحجير. ولكن ولسوء حظّ الكثير من الكتّاب والمثقفين، فإنّ هذا التفهم صعب ونادر. فقد مثلت إليف شافاق أمام المحكمة بتهمة إهانة الهُويّة الوطنية التركية بسبب روايتها (لقيط إسطنبول) التي تناولت فيها مجازر الأرمن في عهد الإمبراطورية العثمانية؛ الأمر الذي ترفض تركيا رسميًّا الاعتراف بحدوثه. ومثلها تعرّض التركي أورهان باموك الحائز على جائزة نوبل للآداب لكثير من التضييق والاتهامات لتصريحاته حول المذابح التي تعرض لها الأرمن والأكراد في الأراضي التركية، واضطر بعد تهديدات جدية إلى الهجرة والعيش في الولايات المتحدة.
وفي صدامٍ جديد بين المثقف والسلطة، انتقد الأديبان شافاق وباموك بشدة مؤخرًا تعامُل الحكومة التركية مع كارثة انفجار منجم سوما التي راح ضحيتها أكثر من مائتي عامل. ففي حين صرّح باموك بأن حياة الإنسان رخيصة في تركيا، بل واتهم الأديبُ الشهيرُ حكومةَ أردوغان بأنها حكومة قمعية استئثارية لا تمنح الحرية الكافية لانتقاد شروط العمل وحماية حقوق العمال، كتبت شافاق مقالًا في الجارديان هاجمت فيه بشدة رئيس الوزراء أردوغان بعد ركل مستشار في حكومته لأحد المتظاهرين المحتجين على طريقة تعامل الحكومة مع هذه الكارثة. وهذه ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي يتخذ فيها الكاتبان موقفًا معارِضًا بشدة  لسياسة حزب التنمية والعدالة الحاكم وأداء رئيسه أردوغان.
لا يهمّني في هذا المقال أن أعلنَ عن أيّ موقف سياسي من حكومة أردوغان. كما يجب عليك كقارئ أن لا تهتم كثيرًا بمعرفة حقيقة موقف السيد أردوغان من مجازر الأرمن، أو الاجراءات التي اتخذها مع مستشاره. كما لا ينبغي أن يجرّك الفضول لتبحث عن كيفية تعامل حكومته مع كارثة منجم سوما، ومدى صحة اتهامات شافاق وباموك للحكومة بالإهمال واللامبالاة. بمعنى آخر؛ لا يجب عليك أن تهتم الآن باتخاذ موقف من الكاتبين بناءً على صحة آرائهما من عدمها، غير أن عقلك لا بدّ أن يعتاد على تقبّل فكرة مهمة، وهي أن آراء الكاتبين السياسية، وإن لم تجدها صحيحة، لا تعبّر بالضرورة عن هوية أو انتماء سياسي أكثر من كونها تعكس هوية وانتماءً إنسانيًّا بحتًا يجب تقبله واحترامه. إن ما يجمع بين إليف شافاق وأورهان باموك بالإضافة إلى شهرتهما العالمية، هو اهتمامهما وارتباطهما العاطفي العميق بوطنهم الأم تركيا؛ هذا الارتباط يجعل من الصعب جدًّا عليهما تجاهل أي أمر يحدث على أرضها بعيدًا عن أي حسابات سياسية. ففي حوار أجرته معه النيويورك تايمز، يعترف أورهان باموك بعدم وجود أيّة قناعات سياسية منتظمة لديه، وأنه يكتب في السياسة بصفته مواطنًا تركيًّا (متورطًا) في المواطنة. ويضيف باموك: “أهتم بالظروف الإنسانية ولا أحمل أي بطاقة حزبية. وكتابتي للروايات السياسية لأن فن الرواية يكمن في قدرة الإنسان على رؤية العالم من خلال عيون الآخرين. إن التعاطف هو أعظم قوة للروائي”.
التعاطف، ذلك الساحر الذي يربط  إليف شافاق وأورهان باموك بالآخر، وهو أقصى ما يختبئ خلف آرائهما ورواياتهما وخلف مواقف الكثير من الكتّاب والمثقفين السياسية، حيث الثقافة في أجمل ما يشرحها هي جهد إنساني يعطي الإنسان شعورًا بالكرامة.
منال 
نشرت هذه التدوينة في موقع "التقرير" بتاريخ 7 يونيو 2014

Sunday 25 May 2014

صهر الوعي في ذكرى النكبة

محمد على يمين الصورة و نديم على يسارها


مرّ خبر استشهاد مراهقين فلسطينيين في ذكرى يوم النكبة 15 مايو الماضي كما تمر الأخبار من الأراضي المحتلة مرورا كريما يراعي حالة البؤس العربي العام. نديم نوارة (17 عام) ومحمد أبو الظاهر (16 عام)، استشهد كلاهما برصاصة إسرائيلية أثناء وقفة تضامنية  مع الأسرى المضربين عن الطعام أمام سجن عوفر الذي يضم أكثر من 20 أسير فلسطيني من أصل 180 أسير مضرب عن الطعام في سجون الاحتلال احتجاجا على الاعتقال الإداري. الحادث المؤلم أوردته صحيفة "النيويورك تايمز"، المرة الأولى كخبر في نسختها الألكترونية، والثانية كتدوينه تشمل فيديو يصور عملية إطلاق الرصاص الحي على الشابين أمام السجن في قسم التدوين الخاص بالصحيفة، كما نشر الخبر اليوم التالي للحادثة في نسختها الورقية.
وقف نديم و محمد بالقرب من سجن عوفر تضامنا مع المعتقلين الإداريين ولم يشكل الاثنان، كما أظهر تسجيل الفيديو،  أي تهديد مباشر على القوات الإسرائيلية. نديم تلقى رصاصة قاتلة في صدره، وأصابت محمد رصاصة قاتلة في الظهر.
وجدت في بعض المواقع و الصحف المعدودة التي نشرت الخبر صور للشهيدين يظهر فيها نديم و محمد بابتسامة تغمر القلب و أمل يشعل الوجدان  يصعّبان عليك تجاهل خيبة رحيل هذه الأرواح  مبكرا
الاعتقال الإداري المغيّب عن الرأي العام، والذي كلّف التعاطف مع ضحاياه نديم ومحمد حياتهما، هو اعتقال يصدر بأمر إداري دون توجيه تهمة، يبقى الأسير في المعتقل لمدة غير محدودة تبدأ هذه المدة بثلاثة شهور قابلة للتجديد حتى خمس سنوات. يخضع قرار الاعتقال الإداري لمزاج سلطة الاحتلال وتقارير إستخباراتية تنقصها الأدلة الصريحة الكافية لتوجية التهمة للأسير عبر القضاءالاعتقال السياسي أيا كان نوعه هو اعتقال  يستهدف الروح و العقل، ويحطم القطع التي تشكل الوعي الواحدة تلو الأخرى، ويبقى الجسد .. عبئا آخرا يحمله الأسير ولا يعرف كيف ومتى الخلاص منه. الهدف من هذا الاعتقال كما يصفه الأسير وليد دقة في رسالة له من المعتقل "الهدف هو إعادة صياغة البشر وفق رؤيا اسرائيلية عبر صهر وعيهم، لا سيما وعي النخبة المقاومة في السجون". وهو ما تهدف له البقية الباقية من الاعتقالات السياسية حول العالم.
بين سجين سياسي في عوفر وجثتي نديم ومحمد الممددتان أمام السجن فواصل عمرية وحسابات شاسعة اختزلها الغبن والاحتلال وجمعها في كفة واحدة: كفّة "القضية"، قضية ستظل تهزم بعض النخب الفكرية العربية التي قررت الاحتفاء بذكرى النكبة بالدعوة إلى الانطلاق والتحرر منها عبر التفكير من منظور آخر بعيد كل البعد عن واقعها، منظور يتهم نضال أصحاب الأرض  بالغرق في أحلام وردية بينما هو غارق في رومانسية تفهّم العدو وتقبل الآخر. نخب ساهمت من حيث لا تعلم في صهر وعي ""أعداء إسرائيل" من العرب في الخارج، وساعدت اسرائيل كثيرا بإعطائها المزيد من الوقت و الحرية في السيطرة على أعداء الداخل أصحاب الحق، أصحاب الأرض. بينما وفي ذات الوقت يتزايد وبشكل ملحوظ عدد اليهود المناهضين للصهيونية والجماعات اليهودية الرافضة لوجود دولة اسرائيل والداعية لمقاطعتها بل وإلى تفكيك كامل لما تسميه بعض هذه الجماعات "دولة المسخ إسرائيل"، والتي وصل عددها في بريطانيا وحدها إلى أكثر من خمس منظمات يهودية تعمل مع غيرها حول العالم على تفعيل مقاطعة دولية اقتصادية ثقافية على كل ما هو اسرائيلي.
صهر الوعي وتطبيعه حتى يرضخ للمحتل، وحصر الحراك الشعبي في محاولة التعايش السلمي مع الاحتلال لن ينجح ببساطة  في تغيير واقع أن دولة إسرائيل محتلة ولن يلغي شرعية المقاومة وحق تقرير المصير.
منال


نشرت هذه التدوينة في صحيفة التقرير بتاريخ 24 مايو 2014


Monday 12 May 2014

شمولية الفكر.. شرٌ مُطلق





أغلب الصراعات التي تصل إلى نقطة اللاتراجع تنشأ في بدايتها من مقاومة الحركات الاجتماعية الساعية للتغيير. ما يحدد جدية وعنف هذه المقاومة هو درجة الخوف من التغيير و مدى الاستسلام والاطمئنان لحالة (الوضع الراهن).
في أحسن الأحوال تبدأ مقاومة التغيير بالترهيب منه، وقد تنتهي في أسوأ السيناريوهات بالدخول في صراعات دموية ومجازر كارثية المردود على المجتمعات. كلما زادت حركة وعمق وسرعة هذه التحركات الاجتماعية الساعية للتغيير كلما زادت درجة العنف في التصدي لها. وبحسب علماء الاجتماع فإن التصدي العنيف لمطالب التغيير يُسوّغ له قانونياً على اعتباره “ضابط اجتماعي” لتحركات تروج “لسلوك منحرف” يجب السيطرة عليه وضبطه.
الكثير من الدراسات التي توسعت في تحليل أشد الصراعات دموية في القرن العشرين كمجازر البوسنة ورواندا، درست عامل (الضبط الاجتماعي) كمحرك أساسي لهذه المجاز، ومبرر لشرعيتها، ومسوغاً لتعايش فئة ليست بالقليلة من الناس معها. وقد يكون لهذه الفئة ثقلها ووزنها المؤثر في المجتمع. فلم يدين رجال الدين في بورما مثلاً أي من المجازر ضد المسلمين، بل قاد الرهبان البوذيون الهجوم على ممتلكات المسلمين ومساجدهم ومنعوا وصول المساعدات الإنسانية لهم. بالرغم من أن الرهبان أنفسهم لعبوا في الأمس القريب دورًا أساسياً في الانتفاض ضد ديكتاتورية الحكم العسكري و تزعموا سعياً حثيثاً للتحول الديمقراطي في بورما.
يتضح من هذا التناقض في تبادل أدوار الرهبان أن (السلوك المنحرف) عامل متغير وليس ثابتاً في معادلة الضبط الاجتماعي، يحدده الأقوى و يخضع له الطرف الأضعف في سياق شامل من عدم المساواة على الصعيدين السياسي والعسكري لا العرقي. ففي المجازر التي شهدتها البوسنة والهرسك مثلاً كان التفوق العرقي من نصيب البوشناق المسلمين غير أن الغلبة العسكرية كانت للصرب.
وإذا كان الحديث هنا بدأ من أقصاه، فذلك لأن نمطية الصراع في المجتمعات الخاضعة لحكم شمولي، ديمقراطي كان أو استبدادي، هي نمطية واحدة مع اختلاف درجة (كارثية) النتائج. فنتائج هذا الصراع تعتمد في الأساس على جدية السعي للتغيير وحجم التنازلات التي يقدمها الطرف الأضعف الخاضع لضبط سلوكه المنحرف!
ومن الأمور التي ترسخ هذه النمطية تعزيز الخلافات الطائفية والفكرية، وتهميش الأصوات العاقلة المعتدلة في المجتمع حتى تختفي وتنطوي لصالح غلبة الأصوات العالية المتطرفة الخاضعة للفكر الشمولي الذي يختزل صوت المجتمع في جوقة واحدة. حيث يهدف الفكر الشمولي كما وصفته حنّا أرنت في كتابها الشهير (أصول الشمولية)، إلى “محو الوعي بحتمية التعايش مع الآخر المختلف في فضاء مشترك، ولا ينجذب لزخم الشمولية ومنهجها سوى النخبة والرعاع”، فيشكل كلاهما طبقة هلامية سميكة تحمي مبدأ الشمولية و تعزز أحكامه و تبرر مقاومته العنيفة لأي تغيير.
وبهذا التسلسل الدراماتيكي الذي يلغي بالتدريج إنسانية الآخر، تعتقد حنا أرنت بأنه لابد أن “يظهر الشر المطلق في المراحل النهائية من الشمولية، وبالوصول إلى هذه المراحل النهائية تعرف البشرية الوجه المتطرف للشر”. يحدث هذا وكل طرف في الصراع مغيب عن حقائق تاريخية واضحة، ويصبح الوعي الجمعي عمودياً لا يدرك غير نمط واحد من الفكر، رابطاً هذا الفكر بالولاء والانتماء إلى سلطه تقف حارساً رقيباً على رأس هذا الوعي المنقوص!
في كتابه (المجتمع المفتوح و أعداؤه) فسر الفيلسوف كارل بوبر الانجذاب نحو الفكر الشمولي والاستسلام له بأنه “خوف من حرية التفكير والاختيار التي بدورها تقتضي المسؤولية، وأغلب الناس يخشون المسؤولية، ولذا يرغب الناس في تسليم أمرهم لنسق عملي من الفكر يقوم بالتفكير والتخطيط نيابة عنهم”، ويختم بوبر هذا الفصل من الكتاب بقوله: “مقاومة التغيير السياسي لا يمكن أن يحقق السعادة. العودة إلى الانغلاق والتشرذم ستصل بنا إلى محاكم التفتيش و الشرطة السرية، فقمع العقل والحقيقة ينتهي بتدمير أكثر وحشية وعنف لكل ما هو إنساني”…

منال 

نشرت هذه التدوينة في موقع "التقرير" بتاريخ 10 مايو 2014
http://altagreer.com/6940

Monday 28 April 2014

إدارة السيطرة على الجمهور


سؤال بسيط جداً،يسأله المواطن البسيط جداً، ويجد البعض في طرحه والإجابة عليه مسؤولية وطنية و خلاصاً. و البعض الآخر يشعر أن في هذا التساؤل تهديداً لأمنه و سلامته.
لماذا نحن مختلفون عن العالم في كل شيء؟
المسألة لا تبررها خصوصية عربية و دينية، فنحن مختلفون أيضاً عمن يشاركوننا الهوية والدين. وليس الأمر تبرره كذلك الخصوصية السعودية، فنحن أنفسنا مختلفون عما نحن عليه في خارج هذه البلاد، حفظها الله وأدامها…
الواقع الآخر المحير هو أنه وبالرغم من تقبلنا لاختلافنا مع العالم ،بل واستحساننا لتناقضنا مع ذواتنا غير أننا لا نقبل إطلاقا فكرة الاختلاف فيما بيننا،و يبقى “الإجماع” على رأي واحد،و شكل واحد،و فكر واحد،هو في رأي الكثيرين صمام الأمان. هذا الرأي والفكر الواحد يقابل كل ماهو مختلف عنه بالاتهام بالضلال و استدعاء الفتنة !
 العجيب في أمرنا أيضاً، هو أن البديهيات المنطقية حول العالم، حتمية الاختلاف كمثال، تعتبر في مجتمعنا ظواهر جديدة  يجب التذكير بتقبل وجودها والتعامل السلمي معها.
بالرغم من حتمية الاختلاف وبديهية التقبل، فإن الرغبة الجامحة في السيطرة يبدو تفسيراً جيداً لعدم تقبل اختلاف الآخر،وفرض خامة واحدة من الأفكار ومقاومة ما يخالفها. إذا كان هذا التحليل صحيحاً وهو الأرجح، فمن المهم أن يدرك المهووسون بالسيطرة على مجريات الأمور وتوجهات العقول حقيقة علمية مهمة، وهي أن السيطرة جزء مهم في اﻹدارة control management، ولكنها تعتمد في الأساس على دراسة ردود الأفعال  feedback، ومن ثم اتخاذ إجراءات تصحيحية corrective actions. ومن غير الاستجابة السريعة لإنذارات واضحة بحدوث خلل ما في أي مشروع أو نظام، وتبني إجراءات تصحيحية لتعديل هذا الخلل في وقت مناسب فستخرج الأمور عن السيطرة المرجوة.
لا يعني هذا أن السيطرة على العقول هو هدف سهل  أو حتى متاح. فمن ناحية فلسفية، يرى نعوم تشوميسكي أن أصحاب النفوذ في العالم يسيرون على منهج السيطرة على الجمهور. ومبدؤهم في هذا “أن على الأقوياء تحقيق أهدافهم بأي وسيلة ممكنة. وطالما أن الجمهور باقٍ تحت السيطرة ، فلا أهمية للرأي العام”. وهو ما قد يصادف النجاح في بعض الأمور والقضايا العابرة. لكنه لا يشكل حلاً على المدى البعيد إطلاقا. ولا يمكن التحكم حقيقة في الجمهورإلا من خلال نافذة واحدة ضيقة سرعان ما ينكشف زيفها للناس،وهي نافذة البروباجندا والإعلام في الغالب. وتبقى القناعات والأفكار بعيدة تماما عن أي سيطرة.
منال
نشرت هذه التدوينة في موقع "التقرير" بتاريخ 25 إبريل 2014

Sunday 27 April 2014

لوحة الحلم المستحيل للفلسطينية ليلى شوا






                                                             Laila Shawa, Impossible Dream, 1988

Saturday 7 September 2013

رسالة حب من هنري ميلر إلى أناييس نن




إن ذاتي الخائفة ماتت. تلك الذات كانت سلبية، مُهمِلة، وغائبة عن الوعي.
والرجل الذي أنا عليه الآن يقِظ وفعّال، إنه يقفز، ويُقاتل، ويرفض أنْ يُرخي قبضته.

هناك فرق، ألا ترين؟
الذات القديمة كانت ستنحل وتذوي على السرير،
أو ستسكر، 
أو تهيم على وجهها في الشوارع،
أو تلجأ إلى صديق قديم.

لم يعد ياستطاعتي فعل هذه الأمور هذه الأمور كلها كانت تُخفف عني، تمكّنني من العويل ألماً ومعاناة، وربما كنتُ أرغب فيهما حينئذٍلكنني لم أعد أريد أنْ أُعذِّب نفسي، سوف أضع نفسي تحت تصرّفك دائما، وجهاً لوجه، بسرعة، ومباشرة.
لن أسمح بأي غلط، ولا بأي حادث يتطور سريعا إلى سوء فهم. لن أسمح لنبات ضار واحد ينمو في الحديقة التي نُعدّ.

إنَّ الحياة قصيرة قِصراً مُرعباً ، فلنُحقق فيها معاً رغباتنا كلها.
يجب أنْ نُمسك بالزمن ونلوي عنقه...
 يجب أنْ يعيش كلٌ منا داخل الآخر

                                                     هنري