Sunday 22 June 2014

إعادة قولبة الاستبداد لا تأتي بالإصلاح


لا تقوم قائمة لانتفاضة شعبية ثائرة على الظلم والاستبداد وهي مستندة إلى أسس طائفية وتحالفات مشبوهة. رغم هذه الحقيقة البسيطة، ينجر البعض إلى التفاؤل بشأن تحالف الدولة الإسلامية في بغداد والشام “داعش” مع بقايا حزب “البعث الصدّامي” و”ثوار العشائر” في رفع الاضطهاد عن “سنة العراق”.
جميع ما بين الأقواس تعريفات طائفية عنصرية يُعتقد وهمًا أن تؤسس لدولة مدنية، بل وتتم مطالبة المشككين في نتائج هذه “الثورة” بالصمت و”عدم التأليب” على الثورة. دون وعي للفرق بين التشكيك والتخوف من نتائج هذا الحراك المسلح وبين التسليم بمشروعية الانتفاض على نظام المالكي الذي حول العراق إلى دولة هزيلة مفرغة من مؤسساتها  ومجردة من أي أهداف وطنية عليا.
التطرف والإقصاء وعدم وضوح الغاية هي أبرز العوامل التي حولت الربيع في دول الربيع العربي إلى خريف قاسٍ، وهي نفسها العوامل التي تسيّر الأمور في “ثورة العشائر” العراقية. غير أن الكثيرين اختاروا تجاهل هذه الدلالات الواضحة على اعتبارها توصيفات إنشائية عاطفية لا تصلح لغير تجيير صفحة مكتوبة في رواية ثورية.
طائفية المالكي وحكومته وحتمية سقوطه لا تلغي كون التحالفات التي اجتمعت اليوم في العراق هي تحالفات قوى متناقضة ومشبوهة لن يجلب اجتماعها للعراق غير المزيد من ويلات الحرب والانقسام، بالإضافة إلى أنه ينذر بخروج مشوّه لمارد البعث العراقي من قمقمه الذي سيق إليه. وفي نمطية مخزية، بدأ المالكي بالفعل عمليات “التطهير” لقيادات من الحزب المنحلّ الذي يعتقد ارتباطها المباشر مع أمين سر الحزب، عزة الدوري، بدلًا من السعي إلى حوار وطني يشمل جميع الفرقاء السياسيين بالأخص الذين يعتقد أن لهم دورًا فاعلًا في الأحداث الجارية.
إن إعادة قولبة الاستبداد لا يمكن أن تسمّى إصلاحًا ولا تعني بأي حال من الأحوال تغييرًا إيجابيًّا، وهي على الأرجح الخيار الأخير لشعب أنهكته الإحباطات المتوالية ودفعه اليأس من إيجاد حلول إصلاحية جادة إلى التعلق بقشة قد تكون قاصمة لهذه المنطقة البائسة برمتها والتي تعاني في ذات الوقت من نفس الإحباط والتخبط السياسي واليأس من الإصلاح الذي يكابده العراقيون.
الدليل الأوضح على أن إعادة قولبة الاستبداد لا يمكن أن تنتج إصلاحًا؛ أنّ ما نتج عن إعادة تدوير أمريكا لنظام حزبي فاشيّ في العراق هو نظام محاصصة مذهبي فرّغ العراق من مؤسساته وحوّل جيشه إلى ميليشيات هزيلة ذات ولاءات وانتماءات طائفية فشلت في أول اختبار حقيقي لها في حماية الدولة. هذا، باختصار، هو محصلة الغزو الأمريكي والذي تم على حساب خيرات العراق ومدخرات أبنائه.
ومما يعزّز الاعتقاد في كون الجاري في العراق هو إعادة قولبة للاستبداد ليس كون من يقف خلفه هو من الطائفة السنية وحدها كما يعتقد البعض، بل لأنّ هذا الحراك يسير على نفس الخطى التي يتبعها النظام الحالي بتقديم مصالح محدودة على مصالح وطنية عليا، ويعقد رهانات فاشلة على عناصر خارجية مشبوهة. فانتفاضة العراق اليوم وبهذه الرؤية تراهن على استقراره وتقدمه على يد عناصر إرهابية دموية ساهمت في تقويض الثورة السورية وإنهاكها و صرف أنظار وتعاطف العالم عنها.
الكل يخشى اليوم شيئًا في العراق، أوباما يخشى على إرث بوش هناك، فهو -بحسب الواشنطن بوست- مخيّر بين “الاستسلام لمجموعة من الأشرار أو التسليم لحكومة شريرة”. وإيران تخشى فقدان سيطرتها على الجار الذي تُمثّل سيطرتها عليه طعنة في خاصرة الخليج والذي ساهمَ في دفع ثمن خنجرها بنفسه. دول الخليج بدورها قلقة أيضًا من فقدان السيطرة على مجموعة متطرفة وغامضة وطموحة مثل داعش في ظل توتر سياسي داخلي وتزايد المطالبات الشعبية بالإصلاح دون وجود أي بودار استجابة أو نيّة حقيقية في التغيير على المدى القريب.
منال.
نشرت هذه التدوينة في موقع التقرير يتاريخ 21 يونيو 2014

Sunday 8 June 2014

المثقف وإشكالية الهُويّة السياسيّة



إنّ تبنّي الإنسان لمواقف سياسية معينة لا يعكس بالضرورة (هُويّة سياسيّة)؛ فالهُويّة تتشكل بانتماء واعٍ ثابت، في حين أن المواقف السياسية قد تمثل (ثقافة) لا تعبر بالضرورة عن أي انتماء سياسي، بالأخص لو خلى المجتمع من صور المشاركة السياسية والتمثيل الحزبي.
هذه الثقافة المعنية تعكس في الغالب علاقة المثقف مع الآخر المختلف، الآخر البعيد، الآخر الغريب. عبرت الروائية التركية الشهيرة إليف شافاق عن الفرق بين رؤية السياسي والمثقف لهذا الآخر بقولها: “السياسيون بحاجة إلى الآخر كوسيلة لتحقيق أهدافهم، أما بالنسبة للكتّاب فمهمتهم لا تكمن في الانقسام ولكن في بناء الجسور بينهم وبين الآخرين. إن التعاطف هو جوهر رواية القصص، وعلينا أن نرى العالم بعيدًا عن كونه خارطة سياسية، فمصائب البعض في باكستان تؤثر على سعادة الآخرين في كندا، و كل شيء في هذا العالم يعيش في حضن الأخر”.
هكذا يتبنّى، أو يفترض أن يتبنى، المثقف موقفه من أي حدث، كما يفترض من السلطة ومن المجتمع بالذات فهم حيثيات حكم المثقف على أغلب الأحداث حوله بعيدًا عن أي تنميط أو تحجير. ولكن ولسوء حظّ الكثير من الكتّاب والمثقفين، فإنّ هذا التفهم صعب ونادر. فقد مثلت إليف شافاق أمام المحكمة بتهمة إهانة الهُويّة الوطنية التركية بسبب روايتها (لقيط إسطنبول) التي تناولت فيها مجازر الأرمن في عهد الإمبراطورية العثمانية؛ الأمر الذي ترفض تركيا رسميًّا الاعتراف بحدوثه. ومثلها تعرّض التركي أورهان باموك الحائز على جائزة نوبل للآداب لكثير من التضييق والاتهامات لتصريحاته حول المذابح التي تعرض لها الأرمن والأكراد في الأراضي التركية، واضطر بعد تهديدات جدية إلى الهجرة والعيش في الولايات المتحدة.
وفي صدامٍ جديد بين المثقف والسلطة، انتقد الأديبان شافاق وباموك بشدة مؤخرًا تعامُل الحكومة التركية مع كارثة انفجار منجم سوما التي راح ضحيتها أكثر من مائتي عامل. ففي حين صرّح باموك بأن حياة الإنسان رخيصة في تركيا، بل واتهم الأديبُ الشهيرُ حكومةَ أردوغان بأنها حكومة قمعية استئثارية لا تمنح الحرية الكافية لانتقاد شروط العمل وحماية حقوق العمال، كتبت شافاق مقالًا في الجارديان هاجمت فيه بشدة رئيس الوزراء أردوغان بعد ركل مستشار في حكومته لأحد المتظاهرين المحتجين على طريقة تعامل الحكومة مع هذه الكارثة. وهذه ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي يتخذ فيها الكاتبان موقفًا معارِضًا بشدة  لسياسة حزب التنمية والعدالة الحاكم وأداء رئيسه أردوغان.
لا يهمّني في هذا المقال أن أعلنَ عن أيّ موقف سياسي من حكومة أردوغان. كما يجب عليك كقارئ أن لا تهتم كثيرًا بمعرفة حقيقة موقف السيد أردوغان من مجازر الأرمن، أو الاجراءات التي اتخذها مع مستشاره. كما لا ينبغي أن يجرّك الفضول لتبحث عن كيفية تعامل حكومته مع كارثة منجم سوما، ومدى صحة اتهامات شافاق وباموك للحكومة بالإهمال واللامبالاة. بمعنى آخر؛ لا يجب عليك أن تهتم الآن باتخاذ موقف من الكاتبين بناءً على صحة آرائهما من عدمها، غير أن عقلك لا بدّ أن يعتاد على تقبّل فكرة مهمة، وهي أن آراء الكاتبين السياسية، وإن لم تجدها صحيحة، لا تعبّر بالضرورة عن هوية أو انتماء سياسي أكثر من كونها تعكس هوية وانتماءً إنسانيًّا بحتًا يجب تقبله واحترامه. إن ما يجمع بين إليف شافاق وأورهان باموك بالإضافة إلى شهرتهما العالمية، هو اهتمامهما وارتباطهما العاطفي العميق بوطنهم الأم تركيا؛ هذا الارتباط يجعل من الصعب جدًّا عليهما تجاهل أي أمر يحدث على أرضها بعيدًا عن أي حسابات سياسية. ففي حوار أجرته معه النيويورك تايمز، يعترف أورهان باموك بعدم وجود أيّة قناعات سياسية منتظمة لديه، وأنه يكتب في السياسة بصفته مواطنًا تركيًّا (متورطًا) في المواطنة. ويضيف باموك: “أهتم بالظروف الإنسانية ولا أحمل أي بطاقة حزبية. وكتابتي للروايات السياسية لأن فن الرواية يكمن في قدرة الإنسان على رؤية العالم من خلال عيون الآخرين. إن التعاطف هو أعظم قوة للروائي”.
التعاطف، ذلك الساحر الذي يربط  إليف شافاق وأورهان باموك بالآخر، وهو أقصى ما يختبئ خلف آرائهما ورواياتهما وخلف مواقف الكثير من الكتّاب والمثقفين السياسية، حيث الثقافة في أجمل ما يشرحها هي جهد إنساني يعطي الإنسان شعورًا بالكرامة.
منال 
نشرت هذه التدوينة في موقع "التقرير" بتاريخ 7 يونيو 2014