Monday 12 May 2014

شمولية الفكر.. شرٌ مُطلق





أغلب الصراعات التي تصل إلى نقطة اللاتراجع تنشأ في بدايتها من مقاومة الحركات الاجتماعية الساعية للتغيير. ما يحدد جدية وعنف هذه المقاومة هو درجة الخوف من التغيير و مدى الاستسلام والاطمئنان لحالة (الوضع الراهن).
في أحسن الأحوال تبدأ مقاومة التغيير بالترهيب منه، وقد تنتهي في أسوأ السيناريوهات بالدخول في صراعات دموية ومجازر كارثية المردود على المجتمعات. كلما زادت حركة وعمق وسرعة هذه التحركات الاجتماعية الساعية للتغيير كلما زادت درجة العنف في التصدي لها. وبحسب علماء الاجتماع فإن التصدي العنيف لمطالب التغيير يُسوّغ له قانونياً على اعتباره “ضابط اجتماعي” لتحركات تروج “لسلوك منحرف” يجب السيطرة عليه وضبطه.
الكثير من الدراسات التي توسعت في تحليل أشد الصراعات دموية في القرن العشرين كمجازر البوسنة ورواندا، درست عامل (الضبط الاجتماعي) كمحرك أساسي لهذه المجاز، ومبرر لشرعيتها، ومسوغاً لتعايش فئة ليست بالقليلة من الناس معها. وقد يكون لهذه الفئة ثقلها ووزنها المؤثر في المجتمع. فلم يدين رجال الدين في بورما مثلاً أي من المجازر ضد المسلمين، بل قاد الرهبان البوذيون الهجوم على ممتلكات المسلمين ومساجدهم ومنعوا وصول المساعدات الإنسانية لهم. بالرغم من أن الرهبان أنفسهم لعبوا في الأمس القريب دورًا أساسياً في الانتفاض ضد ديكتاتورية الحكم العسكري و تزعموا سعياً حثيثاً للتحول الديمقراطي في بورما.
يتضح من هذا التناقض في تبادل أدوار الرهبان أن (السلوك المنحرف) عامل متغير وليس ثابتاً في معادلة الضبط الاجتماعي، يحدده الأقوى و يخضع له الطرف الأضعف في سياق شامل من عدم المساواة على الصعيدين السياسي والعسكري لا العرقي. ففي المجازر التي شهدتها البوسنة والهرسك مثلاً كان التفوق العرقي من نصيب البوشناق المسلمين غير أن الغلبة العسكرية كانت للصرب.
وإذا كان الحديث هنا بدأ من أقصاه، فذلك لأن نمطية الصراع في المجتمعات الخاضعة لحكم شمولي، ديمقراطي كان أو استبدادي، هي نمطية واحدة مع اختلاف درجة (كارثية) النتائج. فنتائج هذا الصراع تعتمد في الأساس على جدية السعي للتغيير وحجم التنازلات التي يقدمها الطرف الأضعف الخاضع لضبط سلوكه المنحرف!
ومن الأمور التي ترسخ هذه النمطية تعزيز الخلافات الطائفية والفكرية، وتهميش الأصوات العاقلة المعتدلة في المجتمع حتى تختفي وتنطوي لصالح غلبة الأصوات العالية المتطرفة الخاضعة للفكر الشمولي الذي يختزل صوت المجتمع في جوقة واحدة. حيث يهدف الفكر الشمولي كما وصفته حنّا أرنت في كتابها الشهير (أصول الشمولية)، إلى “محو الوعي بحتمية التعايش مع الآخر المختلف في فضاء مشترك، ولا ينجذب لزخم الشمولية ومنهجها سوى النخبة والرعاع”، فيشكل كلاهما طبقة هلامية سميكة تحمي مبدأ الشمولية و تعزز أحكامه و تبرر مقاومته العنيفة لأي تغيير.
وبهذا التسلسل الدراماتيكي الذي يلغي بالتدريج إنسانية الآخر، تعتقد حنا أرنت بأنه لابد أن “يظهر الشر المطلق في المراحل النهائية من الشمولية، وبالوصول إلى هذه المراحل النهائية تعرف البشرية الوجه المتطرف للشر”. يحدث هذا وكل طرف في الصراع مغيب عن حقائق تاريخية واضحة، ويصبح الوعي الجمعي عمودياً لا يدرك غير نمط واحد من الفكر، رابطاً هذا الفكر بالولاء والانتماء إلى سلطه تقف حارساً رقيباً على رأس هذا الوعي المنقوص!
في كتابه (المجتمع المفتوح و أعداؤه) فسر الفيلسوف كارل بوبر الانجذاب نحو الفكر الشمولي والاستسلام له بأنه “خوف من حرية التفكير والاختيار التي بدورها تقتضي المسؤولية، وأغلب الناس يخشون المسؤولية، ولذا يرغب الناس في تسليم أمرهم لنسق عملي من الفكر يقوم بالتفكير والتخطيط نيابة عنهم”، ويختم بوبر هذا الفصل من الكتاب بقوله: “مقاومة التغيير السياسي لا يمكن أن يحقق السعادة. العودة إلى الانغلاق والتشرذم ستصل بنا إلى محاكم التفتيش و الشرطة السرية، فقمع العقل والحقيقة ينتهي بتدمير أكثر وحشية وعنف لكل ما هو إنساني”…

منال 

نشرت هذه التدوينة في موقع "التقرير" بتاريخ 10 مايو 2014
http://altagreer.com/6940

No comments:

Post a Comment

Read & Share , but after posting a comment!