Sunday 8 June 2014

المثقف وإشكالية الهُويّة السياسيّة



إنّ تبنّي الإنسان لمواقف سياسية معينة لا يعكس بالضرورة (هُويّة سياسيّة)؛ فالهُويّة تتشكل بانتماء واعٍ ثابت، في حين أن المواقف السياسية قد تمثل (ثقافة) لا تعبر بالضرورة عن أي انتماء سياسي، بالأخص لو خلى المجتمع من صور المشاركة السياسية والتمثيل الحزبي.
هذه الثقافة المعنية تعكس في الغالب علاقة المثقف مع الآخر المختلف، الآخر البعيد، الآخر الغريب. عبرت الروائية التركية الشهيرة إليف شافاق عن الفرق بين رؤية السياسي والمثقف لهذا الآخر بقولها: “السياسيون بحاجة إلى الآخر كوسيلة لتحقيق أهدافهم، أما بالنسبة للكتّاب فمهمتهم لا تكمن في الانقسام ولكن في بناء الجسور بينهم وبين الآخرين. إن التعاطف هو جوهر رواية القصص، وعلينا أن نرى العالم بعيدًا عن كونه خارطة سياسية، فمصائب البعض في باكستان تؤثر على سعادة الآخرين في كندا، و كل شيء في هذا العالم يعيش في حضن الأخر”.
هكذا يتبنّى، أو يفترض أن يتبنى، المثقف موقفه من أي حدث، كما يفترض من السلطة ومن المجتمع بالذات فهم حيثيات حكم المثقف على أغلب الأحداث حوله بعيدًا عن أي تنميط أو تحجير. ولكن ولسوء حظّ الكثير من الكتّاب والمثقفين، فإنّ هذا التفهم صعب ونادر. فقد مثلت إليف شافاق أمام المحكمة بتهمة إهانة الهُويّة الوطنية التركية بسبب روايتها (لقيط إسطنبول) التي تناولت فيها مجازر الأرمن في عهد الإمبراطورية العثمانية؛ الأمر الذي ترفض تركيا رسميًّا الاعتراف بحدوثه. ومثلها تعرّض التركي أورهان باموك الحائز على جائزة نوبل للآداب لكثير من التضييق والاتهامات لتصريحاته حول المذابح التي تعرض لها الأرمن والأكراد في الأراضي التركية، واضطر بعد تهديدات جدية إلى الهجرة والعيش في الولايات المتحدة.
وفي صدامٍ جديد بين المثقف والسلطة، انتقد الأديبان شافاق وباموك بشدة مؤخرًا تعامُل الحكومة التركية مع كارثة انفجار منجم سوما التي راح ضحيتها أكثر من مائتي عامل. ففي حين صرّح باموك بأن حياة الإنسان رخيصة في تركيا، بل واتهم الأديبُ الشهيرُ حكومةَ أردوغان بأنها حكومة قمعية استئثارية لا تمنح الحرية الكافية لانتقاد شروط العمل وحماية حقوق العمال، كتبت شافاق مقالًا في الجارديان هاجمت فيه بشدة رئيس الوزراء أردوغان بعد ركل مستشار في حكومته لأحد المتظاهرين المحتجين على طريقة تعامل الحكومة مع هذه الكارثة. وهذه ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي يتخذ فيها الكاتبان موقفًا معارِضًا بشدة  لسياسة حزب التنمية والعدالة الحاكم وأداء رئيسه أردوغان.
لا يهمّني في هذا المقال أن أعلنَ عن أيّ موقف سياسي من حكومة أردوغان. كما يجب عليك كقارئ أن لا تهتم كثيرًا بمعرفة حقيقة موقف السيد أردوغان من مجازر الأرمن، أو الاجراءات التي اتخذها مع مستشاره. كما لا ينبغي أن يجرّك الفضول لتبحث عن كيفية تعامل حكومته مع كارثة منجم سوما، ومدى صحة اتهامات شافاق وباموك للحكومة بالإهمال واللامبالاة. بمعنى آخر؛ لا يجب عليك أن تهتم الآن باتخاذ موقف من الكاتبين بناءً على صحة آرائهما من عدمها، غير أن عقلك لا بدّ أن يعتاد على تقبّل فكرة مهمة، وهي أن آراء الكاتبين السياسية، وإن لم تجدها صحيحة، لا تعبّر بالضرورة عن هوية أو انتماء سياسي أكثر من كونها تعكس هوية وانتماءً إنسانيًّا بحتًا يجب تقبله واحترامه. إن ما يجمع بين إليف شافاق وأورهان باموك بالإضافة إلى شهرتهما العالمية، هو اهتمامهما وارتباطهما العاطفي العميق بوطنهم الأم تركيا؛ هذا الارتباط يجعل من الصعب جدًّا عليهما تجاهل أي أمر يحدث على أرضها بعيدًا عن أي حسابات سياسية. ففي حوار أجرته معه النيويورك تايمز، يعترف أورهان باموك بعدم وجود أيّة قناعات سياسية منتظمة لديه، وأنه يكتب في السياسة بصفته مواطنًا تركيًّا (متورطًا) في المواطنة. ويضيف باموك: “أهتم بالظروف الإنسانية ولا أحمل أي بطاقة حزبية. وكتابتي للروايات السياسية لأن فن الرواية يكمن في قدرة الإنسان على رؤية العالم من خلال عيون الآخرين. إن التعاطف هو أعظم قوة للروائي”.
التعاطف، ذلك الساحر الذي يربط  إليف شافاق وأورهان باموك بالآخر، وهو أقصى ما يختبئ خلف آرائهما ورواياتهما وخلف مواقف الكثير من الكتّاب والمثقفين السياسية، حيث الثقافة في أجمل ما يشرحها هي جهد إنساني يعطي الإنسان شعورًا بالكرامة.
منال 
نشرت هذه التدوينة في موقع "التقرير" بتاريخ 7 يونيو 2014

No comments:

Post a Comment

Read & Share , but after posting a comment!